ليس بالإمكان أفضل مما كان
قراءة تأمّليّة أدعو نفسي فيها للقبول والرضى

انظر حولك في مكانك…تأمّل في الجدار أمامك، أو الكرسي الذي تجلس عليه، ارفع رأسك لترى سقف الغرفة، هل الإضاءة متدلّية أم أنّها بداخل السقف؟ أصغِ بسمعك قليلاً…هذا صوت المكيّف؟ أم ضجيج الشارع؟ أم أصواتُ الناس حولك يتحدّثون؟ خذ نفسًا عميقًا…ما هي الرائحة التي تستنشقها؟ جميلة أم ليست كذلك؟
توقّف عن القراءة، لتتفاعل مع نفسك ومع النصّ قليلاً…

سؤالي لك: هل ما رأيته وسمعته واستنشقته يرقى لما يُرضيك؟ أم أنّ الكثير من الملاحظات ورغبات التعديل والتحسين والتغيير تواترت إلى ذهنك أثناء الملاحظة؟ أسمع الجواب لنفسك بصوتٍ عال…
لننتقل سريعًا لذلك المسافر السعيد الذي كُنْتَه في زيارتك لمكانٍ جديد. لم تستمع لأيّ توصياتٍ من أحدٍ ولم تبنِ أيّ توقّعاتٍ في أن تعيش تجربةَ غيرك ولا تنوي أن تُقارن رحلتك برحلات آخرين سبقوك، ولا تُريد أن تبني نموذجًا ليقتدي به المسافرون بعدك…
تخرج من المطار بعد هبوط الطائرة لتستشعر الأجواء…تمشي في الشارع لتُلاحظ وتستكشف…تستنشق روائح الأطعمة المختلفة التي لم تعتَدْ عليها…وجوه الناس وأزياؤهم يثيران انتباهك…الرتم الذي يتحدثون به لغتهم ولهجتهم يُفعّل خلايا جديدة في دماغك…تتلبسك روحُ المستكشف حيث لا وجود للتوقّعات البتّة! إنْ عُدتَ للمكانِ ذاته في سفرتك القادمة فلن يكون لها الطعم ذاته!

باستطاعتك أن تُحيل تلك المتعة لأسبابٍ كثيرة كالتغيير والاستكشاف والاسترخاء وغياب الالتزامات وغير ذلك، ربما تكون جمعيها صحيحة...
لكنّي أريد أن ألفِتَك إلى أمرٍ آخر وهو "القَبول"، لم يكن لديك توقّعاتٌ لما ستعيشه أو ستراه، فصِرْتَ قابلاً لكل ما حولك. لا بدّ أنّك رأيت ما يسوؤك في تلك السفرة أيضًا ولكنّ ذلك لم يُكدّرك أو يُفسد سفرتك(1)، أتدري لماذا؟ لقد كُنت في حالةِ "المسافر" الذي لا يُريدُ تغيير شيء، فهو يقبل(2) كلّ ما يراه، يعلم يقينًا أنّه مُرتحلٌ عن المكان الذي هو فيه، فيعيش التجربة بكامل تفاصيلها، إن أسعده شيءٌ منها تبسّم ومضى، وإن ساءه شيء توجّم ومضى، ولم يُفكّر بكلا الحالين أنّه سيحمل أيًّا من الأمرين بقيّة حياته، فهو عائدٌ لمكانه مُرتحلٌ في زمانه!
للننتقل إلى مثالٍ آخر...
لاحظ أنّ معدّلات القبول عندك عاليةٌ جدًّا للشخصيّات في الرواياتِ التي تقرؤها رغم أنّك لا تتفق مع الكثير من الأفعال أو أنّ الشخصيّة برمّتها لا تُعجبك أو أنّ الأحداث لا تسير على هواك، ولكنّ القَبول موجود وتُواصل القراءة مستكشفًا. فأنتَ مشاهدٌ فحسب ولستَ مسؤولًا عن الأحداث والنتائج، إنّما تنحصر مسؤوليّك بمعايشة المشاعر كلّ لحظة. اكتشفتُ أنّ سبب ذلك القبول -عندي على الأقلّ- كامنٌ في أنّ فكرة تهذيب الشخصيّة وتعديل سلوكيّاتها وترتيب أفكارها أو تغيير مسار الأحداث غيرَ ممكنةٍ البتّة! فتعيش تفاصيل الرواية دون رغبةٍ بأن تقوم بأيّ تغيير.

ثم تلاحظ أنّك في العالم الحقيقيّ لا تكون بالسَعةِ ذاتها أو القبول نفسه عندما تستمع لقصّة شخصٍ حقيقيّ يتحدّث أمامك! وتكتشف أنّ السبب وراء ذلك في أنّ احتمال تغيير الشخص ونصحه قائمان واحتماليّة تغيير الأحداث واردة بالرغم من أنّ الآخر لم يطلب منك سوى الاستماع والإنصات!
ماذا لو أنّنا نتقبّل كلّ الأشخاص حولنا كما نتقبّل شخصيّات الروايات؟ وماذا لو أنّنا نتقبل أحداث الحياة التي لا يَدَلنا فيها كما نتقبّل الحبكة في الرواية؟
أعد النظر للمحيط حولك، ما تراه وما تسمعه وما تستنشقه، الجدار الذي تغيّر لون طلائه والكرسيّ الذي اهترأ قليلاً وأصوات الضجيج وتلك الروائح التي لا تستطيع تمييزها …تقبّل ذلك…تحلّ بروح "المسافر" (3) وبعقلية "قارئ الروايات" فالأمر ليس ضمن مسؤوليّتك، ومسؤوليّتك الوحيدة في غالب الأحيان هي أن تعيش وتتقبّل…
سترى العالم حينها أشدّ بهاءً وعلاقاتك أكثر ثراءً وستكون في غالب أيّامك مُسافرًا تتنقّل سعيدًا ووجهتك صوبَ عينك لا تحيد عنها،فُكلما زاد تقبّلك لما ليس في دائرة مسؤوليّتك ازداد تبلور وجهتك ومعرفتك بدوْرِكَ وتكليفك!
(1) إن أفسد ذلك سفرتك، فذلك بالغالب لوجود توقّعاتٍ سابقةٍ بنيتها سواءً كان ذلك بناءً على تجارب غيرك أو بناءً على جدولٍ رتّبته بعناية للرحلة.
(2) أرجو أن لا تخلط ما بين قبول الشيء والذي أعنيه بكتابتي هذه، وما بين الموافقة والتأييد والتبنّي
(3) إن تعذّر عليك القًبول وإن كان ما يزال شعورٌ قويٌّ ينتابك لضرورة التغيير أو التعديل، فذلك بالغالب راجع إلى أنّ الأمر ضمن مسؤوليّتك وأنتَ فرّطت فيه...قُم وأصلحه الآن أو ضع خطّة لذلك

باحث ...بإمكانك أن تراني باحثًا عن قلمي الذي أحبّه من أيّام الابتدائي أو باحثًا عن مفتاح سيّارتي متواصل الضياع أو ربما باحثًا عن موهبة، أو باحثًا عن البحث بحدّ ذاته...