دحومي والمشوار السرّي
طقسٌ جديد في العيد لم أرغب به ثم أحببته

أحبّ العيد بسائر طقوسه، خصوصًا في المدينة التي نشأتُ فيها حيث أراى العيدَ يُغيّرها لأيّامٍ بكلّ ما للكلمة من معنى وهيَ بكلّ تبدّلاتها جميلةُ جاذبة...
ولقد تبدّل طقسيَ الخاص هذا العيد!(1) رغم أنّ روح الطقس ثابتة إلاّ أنّ هيئته تغيّرت بشكلٍ جليّ...والأشدّ من ذلك أنّه حدثَ دونَما نيّةٍ مقصودة بل بلحظةِ وعيٍ أيقظتني وهاكم القصّة...
مقدّمة
أحبُّ أن أصطحبَ صغار العائلة في مشوارٍ خاصّ كل فترة نُسمّيه "المشوار السرّيّ"، ولا تأخذ عليّ عزيزي القارئ بعد انتهائك من القراءة أنّي أفشيتُ سرّ المشوار هنا، فالحقيقة أنّه حالما ينتهي المشوار حتى تُسْتباحَ سرّيته ويُصبح حديث العائلة...ولا داعي للإشارة أنّي لستُ المتسبّبَ في ذلك 🙄
رغم أنّ جدول المشاوير السريّة غير منضبطٍ إلّا أنّ النيّة قائمة أن يكون أسبوعيًّا...ولكلٍّ من الأطفال دوْره بالتسلسل بحسبَ درجة القرابة
***
دحومي(الطفل): عمو...! امتى بدك تاخدني المشوار السرّي؟!
منذر (البالغ): إن شاء الله قريبًا...
بعد مضيّ أسابيع
دحومي(2): عمو...! امتى بدك تاخدني المشوار تبعنا؟
منذر: قريبًا إن شاء الله، والله ما نسيتك... (وتأنيب الضمير يتعاظم بداخلي)
دحومي: إنتا واعدني تاخدني من شهر فيبروواريي! (ولا أدري حقيقة أيّ شهرٍ وعدته فيه)
بعد مضيّ أسابيع أخرى أيضًا
دحومي: عمو...إمتى بدّك نروح المشوار السرّي تبعنا؟
منذر: خلص عنجد هالإجازة إن شاء الله!
الوالدة: إنتا أخذت أخوه العيد الماضي! (أنصدمُ حقًّا...رغم أنّي مَلِك التسويف إلّا أنّي لم أتخيّل استحقاقي لتاج المُلك)
منذر: خلص! جهّز حالك بكرة على صلاة الظهر تمامًا...
يوم المشوار السرّي
المشهد الأوّل:
منذر: ألو....شووو جاهز يا دحومي؟!
دحومي: آه...جاهز وبستنّاك...
منذر: 10 دقائق وسنخرج بإذن الله...
رنّ جرس الباب بعد 10 دقائق بالتمام وكُنت قد وضعتُ منبّهًا حتى لا يفوتني الوقت...
دحومي وهو يستقرّ في المقعد الأماميّ:ليش الكرسي تبعك ممزوع مش زي تبعي؟!
يبدو أنّي سأخضع للمقارنات طوال المشوار...
منذر: خلّينا ننزل نصلّي الظهر بهاد المسجد
دحومي: آه بعرفو هاد المسجد...أصلاً دائمًا أنا وبابا بنجي بنصلّي فيه، ليش بدك هاد المسجد؟
سأخضع للتحقيق أيضًا لا المقارنات فحسب...
منذر: لأنّو بطريقنا وخلّينا نلحق تكبيرة الإحرام
نيّتي واضحةٌ عندي تمامًا...مشوارٌ صغيرٌ بالسيّارة فأركنها عندَ محطّة قطار، ثمّ نركبُ في القطار، نمرّ على عدد قليلٍ من المحطات ثم ننزل للمقهى. هناك مقهى قريبٌ من أحد المحطّات على الخطّ الأحمر، اعتدت أن أصطحب إليه الأطفال، فلديه مشروب شكولاته ساخنة يُحبّه الأطفال وأجواءٌ جميلة نسبيًّا. الأمور شديدةُ الوضوح عندي: أُريد أن أقضي يومًا خفيفًا روتينيٌّ بعض الشيء ومدفوعًا بحسّ المسؤوليّة، أُريدُ إسقاط هذا التكليف الذي ألزمتُ نفسي به!
منذر: وين بتحبّ نروح يا دحومي؟
دحومي: جوي لاند!
لا أدري على وجه اليقين ما اسم المكان الذي ذكره فاضررت للاستعانة بصديق
منذر (باتصالٍ هاتفيّ دون فتحٍ لمكبّر الصوت): ألووو...شو هاد "جوي لاند؟"
الطرف الآخر: مدينة ألعابٍ في الشارع الفلانّيّ!
منذر: ما هو نظامها؟
الطرف الآخر: تذكرة دخول لقضاء سائر اليوم للطفل!
يبدو أنّي سأكون أسيرًا طوال اليوم، هذه خطّة دحومي للانتقام من تسويفي
منذر: وكم تكلفتها؟
وقد تعمّدت استخدام كلمة "تكلفة" حتى لا يفهمها الصغير بجواري
الطرف الثاني: لا أعلم
تدخّل هنا دحومي: أنا بعرف!
صدَمني بمبلغٍ يتجاوز ضعف مبلغ العيديّة! هيّا يا مُنذر أوجد حلّاً لهذا المأزق، الخطّة لا تسير على ما رسمته منذ البداية..
منذر: دحومي! إنتا معك فلوس؟
دحومي: نعم...
وأخرج من محفظةٍ كان يستخدمها أبوه قبل سنوات مبلغ لا يصل لنصف تكلفةمدينة الألعاب
أوووه...لقد نجوت!
دحومي: عادي...إنتا بتكمّل الدفع وأنا بلعب
لا يبدو أنّ النجاة قريبة
مُنذر: وبدّك إنّك تلعب وتتركني لحالي ما أعمل إشي؟ 😢
دحومي(بوجهٍ متعاطفٍ إلى حد ما): آه...عادي🙃
استعنتُ بلحظات الصمت الثقيلة...ثم عزمتُ أمري
منذر: مُدن الألعاب أجمل عندما تلعبُ مع أطفال العائلة، مش لمّا تلعب لحالك
دحومي: لا لا عادي...مليان أطفال هناك بلعب معهم😎
منذر: احنا متفقين مشوار سيارة وقطار ومقهى...خلص! 😬
وبعد لحظاتِ صمتٍ أخرى...انتصرتُ أخيرًا
منذر: أي قطار بتحب تروح؟
دحومي: بدي أروح القطار الأحمر وبعدين الأخضر وبعدين الأزرق!
واضحٌ أنّ نيّة أسري قائمة وإن تبدّلت الوسائل!
منذر: هيك رح نطوّل كتير...خلص بكفّي نركب قطارين بس
دحومي بعد صمت طويل نسبيًّا وتفكير: طيب...القطار الأخضر ما رحت له من قبل 😉
المشهد الثاني:
دخلنا محطّة القطار، ويبدأ دحومي على حين فجأة بالقيام بحركة جعلتني أتوقّف...يُدخل يديه في بنطاله ويحرّكها، أسأله: بدّك حمّام؟ 😰
بشيءٍ من العنف يُخرج المحفظة ذاتها، ويُشهرُ بطاقة المترو! أوووه...نجوتُ مما لم أحسب له حساب!

***
دحومي: عمو! إنتا عندك بطاقة قطار؟
منذر: لا
دحومي: شوف أنا عندي بطاقة مكتوب عليها اسمي
يبدو أنّه سعيدٌ جدًّا بحصوله على هذه البطاقة قبل أيّام أُسوةً بأخيه
دحومي: صرت 6 سنين قبل أسبوع...وصار عندي بطاقة باسمي، إنتا ليش ما عندك بطاقة؟
متفاديًّا الشعور بالنقص ما استطعت أقول: أنا بستخدم بطاقة البنك
دحومي: طيّب
يبدو أنّ هذا اليوم سيكون طويلاً...
منذر: أي قطارين بدك تركب؟
دحومي: الأحمر والأخضر
منذر: طيّب...سنركب الأحمر ثم الأخضر ثم نعود للأحمر حتى ننزل على أحد المقاهي
وهو المقهى الذي خططتُ للذهاب إليه...مازلت مصرًّا على تنفيذ خطّتي😈
دحومي: لا لا ...ما بدي المقهى اللي على الخطّ الأحمر، هاد نفس المقهى اللي بتاخد الكلّ عليه...بعرفو...ما بدّي إيّاه! 🤨
يا لهذه الورطة!

***
ونحن في المحطّة نُبدّل بين القطارين يقول دحومي: شوف عمو شوف...بتعرف شو هاد؟!
ها أنا أخضع للاختبار الآن بعد خضوعي للمقارنات والتحقيق
أجبته محاولاً إشباع رغبته للشرح والأستذة ومتفهّمًا مصدرها الوراثيّ: لأ ما بعرف!
دحومي: هاي حنفيّة ميّ للشربّ!
واااااااو لم أكن أعرف ذلك ولم أرها في حياتي!😒
وحدث هنا ما لم يكن بالحسبان! أخرجتُ جوّالي والتقطت له صورة،،،ثم ذهبتُ وشربتُ من الصنبور...وكان للماء طعمُ منعشٌ حقًّا. في تلك اللحظة قرّرت التخلّي عن كلّ خططي، وعزمتُ أن ألتزم بغاية "المشوار السرّي": بناء علاقةٍ مع أطفال العائلة...وتبدّل شعوري تمامًا وعلمتُ في تلك اللحظة أنّ المشوار سيكون ممتعًا لي كما أرجو أن يكون ممتعًا له!

المشهد الثالث:
منذر: أي مقهى بتحبّ تروح؟
دحومي: أي مقهى جديد...
توقّفت قليلاً وفتحت الخريطة لأجد المطلوب؛ مقهى بجوار أحد محطّات الخطّ الأخضر...
أشار إلى بوّابة الخروج يقول: من هون المخرج عشان نوصل للمقهى
أسأله مستغربًا من جرأته في الفتوى: إنتا حكيتلي إنّو هاي أوّل مرّة تجي عالخط الأخضر!
دحومي: صحّ...بس أنا بعرف!
خرجنا من البوّابة الأخرى الأقرب على المقهى رغم اعتراضاته

تسابقنا أثناء الصعود، هو يصعد الدرج جريًا وقفزًا وشقلبة وأنا أصعد السلّم الكهربائي...نعم لقد سبقته وسُعدت بذلك 😏
وعندما وصلنا إلى مستوى الشارع متجهين للمقهى أقول: هاد مقهى جديد ما رحت عليه ولا مرّة
دحومي: يعني من 35 سنة ما رحت عليه!
نعم لقد تجاوز الخامسة والثلاثين...😑
***
دخلنا المقهى وطلبت من الموظّف...
منذر يخاطب الموظف: كوب واحد من الشكولاتة ساخنة...
دحومي: وبدي كوكيز...
منذر: أضف لو سمحت كوكيز...
دحومي: وبدّي ميّ
منذر: وأضف ماء لو سمحت
دحومي: إنتا عمّو ما بدك تطلب؟!
منذر: سنتشارك يا دحومي😶
وعندما جلسنا تفقّد محفظته فانتبه بأنّه لم يدفع شيئًا
دحومي: عمو! لازم إنتا تطلب
منذر: طيّب...بدي ساندويتش تيركي بالجبن، ممكن تطلبلي؟
وثبَ دحومي متسلّحًا بمحفظته لا تسعه الأرض شعورًا بالاستعلاء والاستحقاق
دحومي: اكسووزمي...وان تشيز آند تيركي ساندويتش
الموظف: وش؟
دحومي: بدي سندويشة جبنة وتيركي
وفي هذه اللحظة المحوريّة أخرج ما في محفظته ورمى بالورقة النقديّة الوحيدة على الطاولة باعتدادٍ ما بعده اعتداد...غمزتُ الموظّف حتى يسهل عليه تجرّع تلك الإهانة غير المقصودة
الموظف: عطني إياها بيدّي🤨
دحومي عائدًا إلى طبعه اللطيف الذي لا يُعرفُ به إلّا حسب رواية جدّته: تفضل!
استعاد الموظّف بعضًا من كرامته وبدأ يعدّ باقي المبلغ مع دحومي، وقد صبرَ عليه كثيرًا يشهد الله

وعندما عاد دحومي إلى الطاولة: شوف عمّو...صار معي فلوس كتير رح أخلي أخوي يشوف أديش صار معي!
***
منذر: رح أقسم الكوكيز بيناتنا
دحومي وهو يلتهم الجزء الخاص به: طيب...
التفتَ إلى النصف المتبقّي الخاص بي وقال: عموّ! لازم نتشارك وقسم النصف المتبقّي مناصفةً بتساوٍ تام!

رأيتهم يُقدّمون في المقهى قطع من الشكولاته بتصميم مميّز بزخارف من تراثٍ محليّ فأخذت منها
وأخذَ قطعة مباشرة دون أن يسألني وأخذتُ قطعةً أخرى...


خاتمة
كُنتُ سعيدًا جدًا، شاكرًا لله على إغداق نِعمه، وأنا عارفٌ بأنّ الطلعة السريّة كانت لنموّيَّ الشخصيّ بالمقام الأوّل...
ونحن خارجون من المقهى التفتَ دحومي وهو يقول: خلاص طوّلنا كتير...لازم نرجع للبيت اشتقت لماما وبابا🥺
وعندما وصلنا السيارة أكّد لي وهو يأخذ مكانه في المقعد الأماميّ: أكيد عيلتك اشتاقلوك كمان🥺
يا لعظيم نعمِ الله على خلقه!
(1) بإمكانك العودة للتدوينة الأولى بعنوان "جريمة العيد" حتى تعرف طقسي الخاص في الأعياد
(2) اسم مستعار لأحافظ على شيءً من سرّيّة المشوار

باحث ...بإمكانك أن تراني باحثًا عن قلمي الذي أحبّه من أيّام الابتدائي أو باحثًا عن مفتاح سيّارتي متواصل الضياع أو ربما باحثًا عن موهبة، أو باحثًا عن البحث بحدّ ذاته...