عُصفورٌ في ضيق

حادثة حقيقيّة، رُويت مرّتين، كلّ مرّة بلسان شخصيّة مختلفة...

كان الجوّ حارًّا...كعادته كلّ صيفٍ، متأقلمًا معه...أستقبله وأودّعه باختلاف المشاعر كلّ مرّة والظروف تحكم ذلك التبدّل..

اجتمعَ اليومَ عليّ مع شدّة الحرّ شدائدُ أخرى، سأرويها لك حالاً، ولا تستغرب أنّي عصفورٌ أحدّثك بكلماتٍ تفهمها اليوم، فلَطالما حدّثتك زقزقةً مرارًا وأنتَ لا تفهمني...ولا تسألني عن السبب في قُدرتي على النطق لهذه اليوم، حسبك أن تتصوّرها معجزةً ...فليس باستطاعتك أن تُحيط علمًا بكلّ شيء...


كان الجوّ حارًا، حارًّا جدًّا، نارٌ قائظة تطردُ كلّ أشكال الحياة...معَ نسماتٍ لاذعةٍ منها تلفحني، بدّدتْ ما بقي من تأقلمي، وأشعلت فيَّ نار سخطي ...الوقت في الظهيرة، والظلال قليلة منكمشة...

ثمّ! مسّ ريشَ جناحي هواءٌ خفيف بارد سُرعانَ ما أنعشَ فؤادي وعبَرت قشعريرة حنينٍ لأيّام الربيع تلك...تلفّتُّ صوب مصدر الهواء البارد، فإذا بمكانٍ ظليلٍ فسيح، فتهاديتُ إليه مستبشرًا فزمَن المعجزاتِ لم يُولِّ بعد.

فزمَن المعجزاتِ لم يُولِّ بعد...

تجوّلت في امتداد ذلك الظلّ، الذي لم يكن وارفًا كما عهدت الظلال أن تكون...لكنّه ظلٌّ مستوٍ ممتدٍ بمدّ بصري، ونسمات الهواء تتدفّق محدثةً تيّاراتِ برودة ارتعشتُ لها...واصلتُ الطيران محلّقًا مستكشفًا

وإذا بالقلقُ يتسرّب إليّ...الأجواء غريبة لم أعهدها، فالظلال ممتدّة متّصلة ولا أثر لأيّ أشعّة شمس! برودة الهواء المفاجئة بدأت تُثقل رفرفة جناحيّ، تحوّلت القشعريرة إلى بردٍ يجتاحني حقًا...وفجأةً لم أعد أستطيع التحليق، جناحيًّ يرفضان الاستجابة...هبطتُ الأرض مُجبرًا، حاولتُ المشي فلَمْ أستطع، فالأرض ملساءَ كم لم أختبرها من قبل...أرجلي تنزلقُ مُكرّرةً سقوطي! الشدائدُ تجتمعُ عليّ...وبعد تكرار المحاولات وجدتُ أمامي فضاءً جديدًا، كأنّه انعكاسٌ لنفس المكان الذي كُنتُ فيه! وجدتُ عصفورًا آخر مثلي، يُشبهني تمامًا...حاولت أن أحاوره لنجدَ مخرجًا سويًا...كان يُقلّدني بكلّ حركةٍ دونَ إصدارِ أيّ صوت، يسخر منّي فيما يبدو!

لماذا تجتمعُ عليّ الشدائد؟!

حاولتُ أن أُجبره على التجاوب فاقتربتُ منه جدًا، كدتُ ألمسه...فكرّر نفس حركتي! يا للسخريّة، أهوَ زمنُ المعجزات أم زمن الشعوذات! أُثيرَ غضبي وانطلقتُ مندفعًا نحوه لعلّي أجدُ في تلك المساحة مخرجًا مما أنا فيه فإذا بي أصطدم وأسقط أرضًا ولا أستطيع التجاوز! وهذا العصفور أمامي يُقلّد توجّعي وألمي!

لم أستطع التقاط الصورة الحقيقّة في حنيها لانشغالي بالحادثة، فاستعضت بالذكاء الصناعيّ
لم أستطع التقاط الصورة الحقيقّة في حنيها لانشغالي بالحادثة، فاستعضت بالذكاء الصناعيّ

ثم حتّى تكتمل الشدائد، قدِمَ إليّ إنسان...يا لكرهي لهم! ذلك الكائن الذي يُحبّ أصواتنا ولا يُصغي إلينا! يختزلنا زقزقةً وينفي عنّا سائر خصائص خِلقتنا!

يختزلنا زقزقةً وينفي عنّا سائر خصائص خِلقتنا!

 قدمَ إليّ ينظر، لست بصدد كشفِ مكنون نفسه، فلستُ في حالةٍ تسمح بذلك...توجّه نحوي، توجّست من الأسْر...تحوّل غضبي إلى خوفٍ شديد!  انتفضت فجأة...ارتفعتُ عن الأرض قليلًا محاولاً التحليق، ولكنّي سرعان ما سقطتُ أرضًا وارتطمت بنفس الحاجز الوهميّ أمامي! 

ها هو يقترب منّي جدًا، أصابعه تكادُ تمسّني، أيقنتُ بالأسر...استجمعتُ كلّ ذرّة حياةٍ مخزونةٍ فيّ، فحبُّ الحياة لم يترك لي خيارًا آخر، وارتفعت...ها أنا أحلّق أخيرًا، نفحةُ هواءٍ ساخن تلفحني أعادت حيويّتي...أرى ضوءَ الشمس أمامي توجّهتُ نحوه، تجاوزتُ الظلال ...ورأيتُ السماء الزرقاء أخيرًا مكانيَ الذي يُعيد إليّ قوّتي...

الحادثة من منظور الشخصيّة الثانية - منظوريَ الشخصيّ:

رغم تيقّني من خلوّ مساحة العمل المشتركة، إلّا أنّي لمحتُ حركةً لا تَخفى، تركتُ جهازيَ المحمول، وقُمتُ لأرى القادمَ الجديد، فلم أجد أحدًا! التفتُّ إلى الزاوية حيث مرآةُ كبيرةٌ باتساع الجدار يتخبّط عندها عصفورٌ مسكينٌ صغير 😟

ما الذي جاء به إلى هنا؟! كيف دخل إلى هنا؟! اتجهتُ نحوه، فازداد فزعه. تلفّتُّ بعينيّ باحثًا عمّن يُساعدني ليَعودَ إلى فضائه فلم أجد أحدًا...ووجدت بابًا واسعًا مفتوحًا فعرفتُ سبب وجوده هنا... 

أشفقتُ عليه عندما رأيته ينزلق في مشيته على الأرضيّة الملساء وزادت شفقتي عندما رأيته يحاول التحليق ويكرر اصطدامه بالمرآة 😢

 رغم خشيتي الكامنة من محاولة إمساك الطيور، حاولت أن أمسكه لأخرجه مما هو فيه، لكنّي أحجمتُ عندما رأيتُ فزعه!

ثمّ عزمتُ أمري...سأحاول إثارة الخوف بداخله وأوجّهه باتجاه الباب المفتوح، لعلّه يستطيع الخروج...فلا أغلى من آمالِ الحياة

فلا أغلى من آمالِ الحياة...

وكأنّه استجمع بقيّة الحياة في عروقه، رفرفَ محدثً جلبةً تفُوقه...وانطلقَ أخيرًا إلى مكانه الذي يُعيد إليه قوّته... السماء الزرقاء!

تمنّيت أن ألتقط الصورة الحقيقيّة لحظة خروجه...
تمنّيت أن ألتقط الصورة الحقيقيّة لحظة خروجه...

 

منذر بدر الحنبلي
منذر بدر الحنبلي

باحث ...بإمكانك أن تراني باحثًا عن قلمي الذي أحبّه من أيّام الابتدائي أو باحثًا عن مفتاح سيّارتي متواصل الضياع أو ربما باحثًا عن موهبة، أو باحثًا عن البحث بحدّ ذاته...